لا اعلم كم هي الساعة الآن. يبدو لي أنه منتصف الليل. ما زلنا في عرض البحر ولست أدري إلى أين تتقاذفنا الأمواج وتعصف بنا الرياح.
اسمي زهرة، أنا على متن مركب يتسع لحمولة أقصاها سبعون فرداً، غادر المرفأ وعلى متنه قرابة ضعف ما يستطيع حمله. منذ أن غادرنا شواطئ أنطاكيا التركية قبل بضعة أيام ونحن نجهل إلى أين يقودنا المركب. هربت وابني من حلب مثلما تهرب الفريسة من فكي مفترسها. عمار، آخر من بقي من ابنائي.
كان برفقتي في تلك الليلة التي حلّت عليّ كالصاعقة، كنت أقضي ساعات عملي الليلية في مستشفى حلب الجامعي عندما سمعت دوي انفجار هائل هز أرجاء حلب هزّاً. اعتدنا على سماع الانفجارات والقصف بشكل يومي لكن انفجار الليلة تلك كان مغايراً. اهتز قلبي على غير عادته ولم اكترث، واصلت تضميد أحد جرحى انفجار سبق الأخير بساعات، كان شيخاً كهلاً جيء به مبتور القدم ويعاني من جراح دامية، وعلى مقربة مني طفلٌ مغطى بالغبار قد فارق الحياة، ومن ورائي امرأة تصيح وتولول، وصراخ الطبيب بأولوية معالجة من تعرضوا لأصابات خطرة، وسيارات الإسعاف تعوي آتية من كل حدب وصوب، تلفض الموتى والجرحى ثم تغادر لتعود بآخرين طاردهم شبح الموت فلقوا حتفهم أو لامسهم ظلّه فأصيبوا. اعتدت على مشهد يفوق فيه الجرحى عدد أفراد الطاقم الطبي. نمسح الغبار عنهم ونضمّد جراحهم، فيصمد بعضهم ويتشبث بآخر خيوط الحياة، وترتعش أجساد بعضهم الآخر ثم تهدأ ساكنة مستسلمة للأبدية. نخضع لمشيئة الله عاجزين يائسين، نواسي أقاربهم، ومن لا أقارب له نودعه في الثلاجة مجهولاً حتى يتم التعرف عليه أو يقبر مجهولاً.
بينما كنت أضمّد جراح الشيخ في الليلة المشؤومة تلك جاء المسعفون وهم يحملون في أحضانهم طفلة مهشمّة القدمين تتدلل يداها كما تتدلل الأغصان من شجرة هبّت عليها عاصفة هوجاء. تركوها في سرير يجاورني وقد أحاط بها المضمّدون والأطباء من كل جانب، التفتّ إليها ورمقتها، فخارت قدماي وسقطت، أغمي علي ثم أفقت كالملدوغة من حلم أصرخ: سلمى! ابنتي سلمى أين هي؟ أقسم أنها هي.
مغطاة بالغبار والدماء، ولكني عرفتها. أتسألون قلب الأم كيف يرى؟ جن جنوني فهرعت إليها حيث مُدّدت، تفرّست جسدها الذابل ومسحت وجهها بيدان ترتعشان فعلمت أنها فراقت الحياة، كدت أفقد وعي فتذكرت زوجي وبقية أطفالي وتماسكت، سرت نحو مرقد عمار فحملته على عجل. تسمّرت قدماي المثقلتان أمام مدخل الطوارئ لا حول لي ولا قوة. خارت قدماي فجثوت على ركبتيّ تعبة منهارة حسبي الله. استنجدتّ بأحد المسعفين فأخذني إلى داري الذي سويّ به الأرض. وأي دار الذي ترَاءَى أمامي، أهذا الذي كدح من أجله زوجي على مر السنين؟ أهذا الذي كانت جدرانه شاهدة على أفراحنا وأتراحنا ومسراتنا ومآسينا؟ أفعلا تلك السنين والذكريات أحيلت في لحظة إلى حطام؟
بيديّ العاريتين نبشت عن الطوب والتراب أياماً بحثاً عن زوجي وأطفالي. انتشلناهم أشلاء واحداً تلو الآخر. فبكيت مفجوعة بقلب أرملة موقنةً بأن الدموع لن تحي الهلكى، وولولت ثكلى بائسة وأعلم أن الصراخ والعويل لن يُسمع الموتى. بقي عمار الذي كان تحت ظلي فأنجاه الله. أوتني جارةً لي ذو أسرة كبيرة إلى بيتها الصغير المتهالك المكوّن من غرفتان، أحداهم للرجال والأخرى للنساء والأطفال. كم كان الأمر مريراً وقاسياً، كنا نلتفّ حول الطعام كالضباع، فيأكل بعضنا والبعض الآخر يأكله الجوع. شحٌ في الغذاء والدواء، من يمرض فليس له إلا عناية الله وحدها. نرفع رؤوسنا إلى الله فنرى الصواريخ والبراميل آتية من السماء فنفرّ ونختبيء كالجرذان، تنجينا عناية الله أو نموت مهشّمين تحت أقدام الحرب.
تملّكنا الخوف والفزع. هدير الموت يحلق فوق رؤوسنا بلا توقف. أيعقل أن للخوف رائحة يشتمها الموت؟ لا بد من الهرب ولكن إلى أين؟ سمعت ذات مرة أن أحد من أقربائي هرب مع أسرته إلى تركيا عن طريق المهربين. كنت على يقين أن الهرب سيكلفني الكثير، ولكن ما الذي بقي كي يستحق أن نضحي ونناضل لأجله؟ سواء علينا أبقينا أم لم نبقى فالموت يقطن بيننا وسيهرب معنا.
تحريت عن أحد المهربين وتعقبته إلى أن وجدته، أخبرته عن رغبتي بالهرب، فرفض، ثم وضّحت له مأساتي وقلة حيلتي وأن هذا الذي في حضني كل ما تبقى لي، ورفض، بكيت بحرقة متوسلةً إليه علّ قلبه يرق ويستعطف لضعفي. خلعت سلسلة الذهب من رقبتي، وأخبرته بأن لا مال لدي سوى هذه السلسة، كل ما أملك دفن تحت الركام، فقال إنه يعرف أحد المهربين في تركيا وبإمكانه أن يوصلني إليه وأرحل عبره إلى أوروبا دون مقابل.
شعرت بالسعادة في أرض لا تنبت فيها السعادة ولا البهجة. ثم أردف قائلاً: لكن بشرط. اقترب مني حتى شعرت بأنفاسه في وجهي. سحب السلسلة من يدي وقال: ألا تودين ترك هذه الحقارة وتهربين إلى النعيم؟
وضع سبابته بين نهديّ. بلعت ريقي متوجسة من الخوف، فحرّكها إلى أن صارت أسفل بطني وقال:
– اتركي طفلكِ أرضاً.
– الله يستر عليك وعلى حريمك.. أرحمني.
– خلال ساعات ستكونين في تركيا. ألا تودين ذلك؟
استباح جسدي واغتصبني أمام طفلي دون أدنى رأفة ولا رحمة، ثم تركني عارية باكية ألمّلم نفسي الملطّخة بالقذارة. ياليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسيا.
يالله، هل حتمت عليّ أن أغادر حلب مخلوعة الشرف؟ أكانت مشيئتك تلك التي جعلتني أهرب من أنياب الموت إلى براثن الرذيلة؟
أخذني في ذات الليلة إلى تركيا مع آخرين حتى بلغنا بعد ساعات طريق يسلكه المهربون بعيداً عن أنظار حرس الحدود. في مزرعة صغيرة وموحشة سلمّنا لأحد المهربين الأتراك الذي أجبرنا على المبيت في مخزن قش كالنجاع. لم يغمض لي جفن منذ أن غادرت حلب. شعرت بالمرض، كنت جائعة، خائفة ويائسة. كيف لجسدي الملطخ بالعار أن يأنس في مكان قذر ومظلم شديد البرودة وفي كنفي عمار؟ لكنني أستسلمت لعينيّ المثقلتين وغفوت بين يدي الله.
استيقظت على صراخ المهرب التركي وليتني لم استيقظ، ليت روحي فاضت إلى سماء الأبدية وبقى جسدي هامداً في كومة القش تلك. جاء إلينا ببعض الخبز واللبنة المزعترة وزيت الزيتون، كان قليلاً لكن خيراً من أن يلقى بجسدي النحيل الميت جوعاً على الطريق. أخبرنا بأن نستعد للرحيل كي يتسنى لنا الوصول إلى شواطئ أنطاكيا في جنح الظلام.
كان قرص الشمس يتوراى خلف جبال أنطاكيا عندما بلغنا الشاطئ. حدقت ملياً في الأفق المفتوح متأملةً في البحر المتّشح بألوان الغروب. أهذهِ هي البوابة التي سنعبر من خلالها إلى النعيم هرباً من الموت والخوف والجوع؟
يتعاقب علينا الليل والنهار في عرض البحر منذ ثلاثة أيام. بالكاد أكلنا، أجسادنا أضحت هزيلة وشاحبة كالليل. يفصلنا بين الحياة والموت مركب مكتض بالبؤساء تتقاذفه الأمواج كخرقة بالية في قلب العاصفة.
منتصف الليل، والظلام حالك. يداي ترتعشان من البرد، من الخوف. مما أخاف؟ أليس الذي يثيرالسحاب ويرسل الرياح هو الذي نجاني من براثن الحرب وأخرجني من جحيمها؟
أيها القدير، إننا نتقاسم رغيف القدر الذي خبزته بيديك الكريمتين، ونغترف مصيرنا من بئر الغيب التي لا يرى قعرها سواك. أناجيك وأنت الرحيم، أن ترحم عبادك التائهين وسط العدم.
احتضنت عمار بشدة ثم غفوت، عندما بدأ الظلام بالتلاشي استيقظت، أم قلبي الذي استيقظ؟ كانوا نيام إلا من حاصرة الخوف فظلّ مستيقظاً مرتجف الأطراف…
المركب! المركب ينقلب!
صرخ أحدهم كالممسوس. فاق الجميع مذعورين كأنما نادى المنادي. مال أحد جانبي المركب بينما كنت في الجانب الآخر، أيقنت أننا هلكى لا محالة، مسكت عمار بكلتا يدي. إلى متى أهرب من هذا الظل الذي يدعى الموت؟ في تلك اللحظة خشيت على ابني، أن مت غريقة أود له أن يبقى حياً فوق جثتي الطافية.
بين الصراخ والبكاء انقلب المركب، فلت عمار من يدي ففقدته، غاص جسدي ثم خرجت اتخبّط محركةً يديّ للأعلى كي أُبقي رأسي فوق سطح الماء. عجزت عن إيجاد ابني، دخل الماء عينيّ وحجب عني الرؤية، استنشقته وتجرعته. كنت عاجزة ويائسة، لم أخش الموت بقدر خشيتي فقدان ابني، وكيف لي أن أنقذه وأنا بحاجة لأحد أنا ينقذني، فقدته، ضاع بين الهاربين من الموت، يصرخون، يناجون، يتخبّطون اختلطت رائحة الموت باليأس.
توقفت عن الحراك، أطلقت حشرجة أخيرة، أغمضت عينيّ فغصت، رافقني الموت إلى القاع. تبدد النور ثم عمّ الظلام.