رسالة إلى سيدة مجهولة (الرسالة الثانية)

ليست لدي القدرة للوصول إليكِ، بذات الكيفية التي تقود النحلة إلى رحيق الزهرة. وعلى الرغم من الشكّ الذي راودني، إلا أن حدسي يقول بأنكِ سمعتي ندائي الأخير، كما يميّز الرضيع، من بين المحيطين به، صوت أمه. 

هل توقّف دوران الزمن، وأصبحت عقاربه تدور بوتيرة مضطربة كي أشعر بأن دهراً مرّ على آخر ظهورٍ لكِ؟ ساورتني حالة من الاضطراب جعلت من حولي يشعرون بأن ثمّة خطباً ما. لا عليكِ من ذلك.

أتعلمين؟ إن محاولة إقناع الناس على القدرة التي تجعلني أرى الأطياف أشبه بمحاولة إقناعهم بالقفز من مكانٍ مرتفع والتحليق بأياديهم، إنها مستحيلة، لكنّي لست بحاجة لإقناع أحد. سواءً أكنتِ شبحاً أم وهماً، كل ما في الأمر هو أنني أرغب برؤيتكِ، أودّ أن أراكِ تأتين كغمامة ناصعة البياض، ثمّ تنتصبين أمام ناظريّ كنزبقة يلاطفها النسيم – تنهيدة – هل تذكرين حديثكِ عن الأضداد؟ قلتي: “أن الإنسان في صراعٍ أبديّ ليس مع الخير والشر فحسب، بل أن المواجهة الحقيقية هي بين الحبّ والكراهية، كالنهر تماماً، فإن تقصّيت عن مجرى الخير فستجد أنه ينبع من الحب. والأمر كذلك مع الشر، فإنه يأتي من ذوبان الحقد والبغضاء والحسد مولّداً نهراً جارفاً يدعى الكراهية” لم أستطع فهم ذلك في بادئ الأمر، ثم وبطريقة شعرت بأنكِ قرأتي التساؤل الذي كان يجول في رأسي، أردفتي قائلة: “ببساطة، إن قلب الإنسان كالتربة، فإن غرست الزهرة ذاتها في بقاعٍ مختلفة من هذه الأرض، فلن تنمو جميعها بذات الكيفية معاً. إذ ستنمو بعضها وتصبح أزهاراً يانعة، وسيذبل البعض الآخر ويصبح هشيماً. كذلك هو الحال عند الناس، فليست جميع القلوب مهيئة للحب. إنها مشيئة الله، فمثلما يحتدم الصراع بين العلم والجهل، ستبقى معركة الحب والكراهية أبديّة”

كانت كلماتكِ تتساقط عليّ مثلما يستاقط الرذاذ على أرضٍ جدباء، فتزهو وتصبح مفعمة بالحياة. ثمّ تلاشيتي حينها، كبخار الماء في الهواء، وأسرع من أي حلم راودني، إلا أنكِ لستِ كذلك.

هل أخبرتكِ بأنني أصبحت التلميذ الذي يشتاق لمعلّمه؟ وإنني أتساءل ما هو النقيض الذي يقابل طيفاً يتحدّث؟

                                                                  قيـس،،

رسالة إلى سيدة مجهولة (الرسالة الأولى)

سيدتي،

ليس بالأمر الهيّن، أن يخضع المرء أمام رغبة الكتابة إلى طيف يزوره باستمرار، وعلى الرغم من أن أطياف أُناسٍ كُثر تزورني على الدوام، لم يكن ثمة لواحدٍ من هؤلاء، القدرة الخفيّة لجرّي إلى قعر الأذعان لأكتب. إذ لست أعلم، ما إذا كان بمقدور الأطياف أن تقرأ، لكن وبطريقةٍ ما، بالسحر التي تذوب فيه الكلمات وتغدو سراباً، موقن بأنك ستقرأين ما أكتبه. 

لم أكن أعبأ بزياراتكِ الأولى، أو دعيني أكون صريحاً، كنت أتصنّع اللامبالاة. ففي بادئ الأمر كنتِ تأتين هادئة كالليل، لا تنبّسين بأية كلمة، ومن ثم ترحلين. ومنذ اليوم الذي أطلقتِ فيه العنان لشفتيكِ بالحديث، سمعت إقاعٌ عذب، موسيقى لم أسمعها قط، تناهى إليّ صوتكِ كالقيثارة، وربما من السذاجة أن أشبّه صوتكِ بآلة من صنع الإنسان. تحدثتي حينها عن جوهر الحياة وظّل الموت. ثم إني أذكر جيداً في إحدى زياراتكِ كنتِ كقديسة، تشرحين لي بيديكِ العاجيتين عن لذّة الحُب ومرارة الكراهية. لكن وياللعجب، تتلاشين كالغبار في جوٍّ عاصف، كلما حاولت أن أتحدث، فليس من الأنصاف بأن لا أنبس بكلمة، بينما أنتِ تفعلين. لكن حسناً، لأني أشعر بأنكِ ستسمحين لي يوماً بالحديث؛ سأخضع لتلك الموسيقى السماوية. 

أيتها العزيزة- أن كان يحق لي قول ذلك- إن الأيام التي تخلو منكِ تجعلني أشعر بالضجر، تسبب لي فراغاً داخلياً أبدو فيه كإناء فارغ يتخبّط محدثاً ضجيجاً ينمّ عن فراغٍ وخواء. أشعر بأن العجز شبحاً أسدل ظلاله عليّ، فبقيت خالي الوفاض، بلا حراك. فمثلما يخاطب العازف الناس بالموسيقى، والرسّام بريشته، فلم أجد سبيلاً إليكِ، سوى بالكتابة، اللّغة التي أجيدها، باحثاً عنكِ في هذا الفضاء الرحب. 

                                                                             قيـس 

ماتت ثم بُعِثت

لم يسبق لي وأن شعرت بأنني امرأةً لا قيمة لها في الحياة. أصبِح بائسة وأمسي يائسة، والأيام هي الأيام، تجيء وتدوس على قلبي ومن ثم ترحل. وأنا ما زلت أنا، مطلّقة من رجلين زرعوا الشقاء في أحشائي ورحلوا، وأُمّاً لطفلتين من أبوين مختلفين. انفصلت عن الأول لأن الشك الذي كان يعتصره ويشتعل في صدره جعله يصدّق الهواجس ويكذّبني، فيتهمني بأشياء لم أفعلها. ما زلت أذكر كيف يصبّ صهارة شكه عليّ حتى اكتوى قلبي، فاكتوت حياتي ثم طلبت الطلاق فانفصلت عنه. فهل أخطأت؟؟ ما الذي اقترفته كي يراني الناس بأعين الاشمئزاز حتى ظننت أن الخطيئة ظلّي؟ وقفت أمام مرآة المجتمع فضاقت بي الحياة ذرعاً مما رأيت، رأيت العار يقف بجانبي. 

تزوجت بعدئذٍ من رجل يكبر أبي، تزوجته رغماً عني، رغماً عن قلبي الذي كان معترضاً، فتقبّلت الأمر وقبِلته زوجاً. مرت بي الأيام ولم أستطع أن أكنّ له بأية عاطفة، حاولت جاهدة أن أحبه فلم أستطع، عجزت لأنه لم يكن يبادلني العاطفة. يزحف إليّ ليلاً ليفرغ شهواته ونزواته وينفر مني نهاراً. كرهته، وبغضت تلك الأيام التي كنت أرى فيها جسدي الشاحب مكمناً للقذارة، وممّن؟ من ذاك العجوز الواهن.

طلّقت منه، فأصبحت سجينةً حرّة.

أمي تقول: الموت أرحم يا ابنتي من أن تكوني مطلّقة في هذا المجتمع، ستُنّتفكِ ألسنتهم.

أبي لم يعد أبي منذ طلاقي الأول، كان  يمنعني من الخروج لسببٍ أجهله. أتراه يفعل ذلك خشيةً من كلام الناس أم تراوده الشكوك تجاهي مثلما كانت تراود زوجي الأول؟

ما الذي اقترفته كي يفر مني الجميع كأنهم يفروا من موبوءة؟ ما ذنبي سوى أنني خرجت من أقفاص الشك لأجل كرامتي، ومن أجل حريتي عتقت يديّ من قيود الاستعباد. حتى إخوتي، أولئك الذين كانوا بالأمس أقرب الناس لي، صاروا أبعد من السعادة إلى قلبي، أصبحوا يمقتون الحديث معي ولا يحركون ساكناً عندما أتعرّض للضرب من أبي، أبي الذي جعلني حبيسة سمعته كي يربّت على أكتف الناس ولا يعبأ حتى أمام بناتي. آه بناتي يكبرن من ثدي كآبتي وتشردّن بين شقاءي وبؤسي.

في عتمة إحدى الليالي قد آنست ناراً، نوراً يتوهّج بخفوت يكاد ينطفئ، كتلك النار التي آنسها موسى. في ذلك القفر الذي كنت أعيشه سمعت صوتاً يشبه الهمس بأن أرحل. تسللّت من باب المنزل الخلفي المؤدي إلى المزرعة، ثم شققت الدرب المظلم بخطى متثاقلة حتى شعرت أن الأرض تسحبني كي أقف عن المضي. تبعت الضوء الذي يأتي من بعيد إلى أن أدركته. تسمّرت للحظة حيث يواجهني وهجُ الطريق المُضاء بالأنوار. وظهري نحو العتمة، التي كنت أعيش بين أروقتها، في قلبها ينمن بناتي اللاتي طبعت في جبينهن قبلاتي الأخيرة. في ذاك الظلام الدامس دفنت كل شي. 

وقفت متسمّرة عند حافة الطريق حتى جاءت سيارة، وقفت حيث أقف. رجلٌ مسن ذو لحيةٍ كثّة وشعرٍ أشعث قال مقتضب الحاجبين: ما الذي تفعلينه في هذا الوقت هنا يا سيدة؟ هل حدث لكِ مكروه؟

فتحت باب سيارته وجلست في المقعد الخلفي دون أن أُجيبه ثم قلت له: خذني بعيداً عن هذا المكان.

زهرة التي ذبِلت

لا اعلم كم هي الساعة الآن. يبدو لي أنه منتصف الليل. ما زلنا في عرض البحر ولست أدري إلى أين تتقاذفنا الأمواج وتعصف بنا الرياح.

اسمي زهرة، أنا على متن مركب يتسع لحمولة أقصاها سبعون فرداً، غادر المرفأ وعلى متنه قرابة ضعف ما يستطيع حمله. منذ أن غادرنا شواطئ أنطاكيا التركية قبل بضعة أيام ونحن نجهل إلى أين يقودنا المركب. هربت وابني من حلب مثلما تهرب الفريسة من فكي مفترسها. عمار، آخر من بقي من ابنائي.

كان برفقتي في تلك الليلة التي حلّت عليّ كالصاعقة، كنت أقضي ساعات عملي الليلية في مستشفى حلب الجامعي عندما سمعت دوي انفجار هائل هز أرجاء حلب هزّاً. اعتدنا على سماع الانفجارات والقصف بشكل يومي لكن انفجار الليلة تلك كان مغايراً. اهتز قلبي على غير عادته ولم اكترث، واصلت تضميد أحد جرحى انفجار سبق الأخير بساعات، كان شيخاً كهلاً جيء به مبتور القدم ويعاني من جراح دامية، وعلى مقربة مني طفلٌ مغطى بالغبار قد فارق الحياة، ومن ورائي امرأة تصيح وتولول، وصراخ الطبيب بأولوية معالجة من تعرضوا لأصابات خطرة، وسيارات الإسعاف تعوي آتية من كل حدب وصوب، تلفض الموتى والجرحى ثم تغادر لتعود بآخرين طاردهم شبح الموت فلقوا حتفهم أو لامسهم ظلّه فأصيبوا. اعتدت على مشهد يفوق فيه الجرحى عدد أفراد الطاقم الطبي. نمسح الغبار عنهم ونضمّد جراحهم، فيصمد بعضهم ويتشبث بآخر خيوط الحياة، وترتعش أجساد بعضهم الآخر ثم تهدأ ساكنة مستسلمة للأبدية. نخضع لمشيئة الله عاجزين يائسين، نواسي أقاربهم، ومن لا أقارب له نودعه في الثلاجة مجهولاً حتى يتم التعرف عليه أو يقبر مجهولاً.

بينما كنت أضمّد جراح الشيخ في الليلة المشؤومة تلك جاء المسعفون وهم يحملون في أحضانهم طفلة مهشمّة القدمين تتدلل يداها كما تتدلل الأغصان من شجرة هبّت عليها عاصفة هوجاء. تركوها في سرير يجاورني وقد أحاط بها المضمّدون والأطباء من كل جانب، التفتّ إليها ورمقتها، فخارت قدماي وسقطت، أغمي علي ثم أفقت كالملدوغة من حلم أصرخ: سلمى! ابنتي سلمى أين هي؟ أقسم أنها هي.

مغطاة بالغبار والدماء، ولكني عرفتها. أتسألون قلب الأم كيف يرى؟ جن جنوني فهرعت إليها حيث مُدّدت، تفرّست جسدها الذابل ومسحت وجهها بيدان ترتعشان فعلمت أنها فراقت الحياة، كدت أفقد وعي فتذكرت زوجي وبقية أطفالي وتماسكت، سرت نحو مرقد عمار فحملته على عجل. تسمّرت قدماي المثقلتان أمام مدخل الطوارئ لا حول لي ولا قوة. خارت قدماي فجثوت على ركبتيّ تعبة منهارة حسبي الله. استنجدتّ بأحد المسعفين فأخذني إلى داري الذي سويّ به الأرض. وأي دار الذي ترَاءَى أمامي، أهذا الذي كدح من أجله زوجي على مر السنين؟ أهذا الذي كانت جدرانه شاهدة على أفراحنا وأتراحنا ومسراتنا ومآسينا؟ أفعلا تلك السنين والذكريات أحيلت في لحظة إلى حطام؟

بيديّ العاريتين نبشت عن الطوب والتراب أياماً بحثاً عن زوجي وأطفالي. انتشلناهم أشلاء واحداً تلو الآخر. فبكيت مفجوعة بقلب أرملة موقنةً بأن الدموع لن تحي الهلكى، وولولت ثكلى بائسة وأعلم أن الصراخ والعويل لن يُسمع الموتى. بقي عمار الذي كان تحت ظلي فأنجاه الله. أوتني جارةً لي ذو أسرة كبيرة إلى بيتها الصغير المتهالك المكوّن من غرفتان، أحداهم للرجال والأخرى للنساء والأطفال. كم كان الأمر مريراً وقاسياً، كنا نلتفّ حول الطعام كالضباع، فيأكل بعضنا والبعض الآخر يأكله الجوع. شحٌ في الغذاء والدواء، من يمرض فليس له إلا عناية الله وحدها. نرفع رؤوسنا إلى الله فنرى الصواريخ والبراميل آتية من السماء فنفرّ ونختبيء كالجرذان، تنجينا عناية الله أو نموت مهشّمين تحت أقدام الحرب.

تملّكنا الخوف والفزع. هدير الموت يحلق فوق رؤوسنا بلا توقف. أيعقل أن للخوف رائحة يشتمها الموت؟ لا بد من الهرب ولكن إلى أين؟ سمعت ذات مرة أن أحد من أقربائي هرب مع أسرته إلى تركيا عن طريق المهربين. كنت على يقين أن الهرب سيكلفني الكثير، ولكن ما الذي بقي كي يستحق أن نضحي ونناضل لأجله؟ سواء علينا أبقينا أم لم نبقى فالموت يقطن بيننا وسيهرب معنا.

تحريت عن أحد المهربين وتعقبته إلى أن وجدته، أخبرته عن رغبتي بالهرب، فرفض، ثم وضّحت له مأساتي وقلة حيلتي وأن هذا الذي في حضني كل ما تبقى لي، ورفض، بكيت بحرقة متوسلةً إليه علّ قلبه يرق ويستعطف لضعفي. خلعت سلسلة الذهب من رقبتي، وأخبرته بأن لا مال لدي سوى هذه السلسة، كل ما أملك دفن تحت الركام، فقال إنه يعرف أحد المهربين في تركيا وبإمكانه أن يوصلني إليه وأرحل عبره إلى أوروبا دون مقابل.

شعرت بالسعادة في أرض لا تنبت فيها السعادة ولا البهجة. ثم أردف قائلاً: لكن بشرط. اقترب مني حتى شعرت بأنفاسه في وجهي. سحب السلسلة من يدي وقال: ألا تودين ترك هذه الحقارة وتهربين إلى النعيم؟

وضع سبابته بين نهديّ. بلعت ريقي متوجسة من الخوف، فحرّكها إلى أن صارت أسفل بطني وقال:

– اتركي طفلكِ أرضاً.

– الله يستر عليك وعلى حريمك.. أرحمني.

– خلال ساعات ستكونين في تركيا. ألا تودين ذلك؟

استباح جسدي واغتصبني أمام طفلي دون أدنى رأفة ولا رحمة، ثم تركني عارية باكية ألمّلم نفسي الملطّخة بالقذارة. ياليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسيا.

يالله، هل حتمت عليّ أن أغادر حلب مخلوعة الشرف؟ أكانت مشيئتك تلك التي جعلتني أهرب من أنياب الموت إلى براثن الرذيلة؟

أخذني في ذات الليلة إلى تركيا مع آخرين حتى بلغنا بعد ساعات طريق يسلكه المهربون بعيداً عن أنظار حرس الحدود. في مزرعة صغيرة وموحشة سلمّنا لأحد المهربين الأتراك الذي أجبرنا على المبيت في مخزن قش كالنجاع. لم يغمض لي جفن منذ أن غادرت حلب. شعرت بالمرض، كنت جائعة، خائفة ويائسة. كيف لجسدي الملطخ بالعار أن يأنس في مكان قذر ومظلم شديد البرودة وفي كنفي عمار؟ لكنني أستسلمت لعينيّ المثقلتين وغفوت بين يدي الله.

استيقظت على صراخ المهرب التركي وليتني لم استيقظ، ليت روحي فاضت إلى سماء الأبدية وبقى جسدي هامداً في كومة القش تلك. جاء إلينا ببعض الخبز واللبنة المزعترة وزيت الزيتون، كان قليلاً لكن خيراً من أن يلقى بجسدي النحيل الميت جوعاً على الطريق. أخبرنا بأن نستعد للرحيل كي يتسنى لنا الوصول إلى شواطئ أنطاكيا في جنح الظلام.

كان قرص الشمس يتوراى خلف جبال أنطاكيا عندما بلغنا الشاطئ. حدقت ملياً في الأفق المفتوح متأملةً في البحر المتّشح بألوان الغروب. أهذهِ هي البوابة التي سنعبر من خلالها إلى النعيم هرباً من الموت والخوف والجوع؟

يتعاقب علينا الليل والنهار في عرض البحر منذ ثلاثة أيام. بالكاد أكلنا، أجسادنا أضحت هزيلة وشاحبة كالليل. يفصلنا بين الحياة والموت مركب مكتض بالبؤساء تتقاذفه الأمواج كخرقة بالية في قلب العاصفة.

منتصف الليل، والظلام حالك. يداي ترتعشان من البرد، من الخوف. مما أخاف؟ أليس الذي يثيرالسحاب ويرسل الرياح هو الذي نجاني من براثن الحرب وأخرجني من جحيمها؟

أيها القدير، إننا نتقاسم رغيف القدر الذي خبزته بيديك الكريمتين، ونغترف مصيرنا من بئر الغيب التي لا يرى قعرها سواك. أناجيك وأنت الرحيم، أن ترحم عبادك التائهين وسط العدم.

احتضنت عمار بشدة ثم غفوت، عندما بدأ الظلام بالتلاشي استيقظت، أم قلبي الذي استيقظ؟ كانوا نيام إلا من حاصرة الخوف فظلّ مستيقظاً مرتجف الأطراف…

المركب! المركب ينقلب!

 صرخ أحدهم كالممسوس. فاق الجميع مذعورين كأنما نادى المنادي. مال أحد جانبي المركب بينما كنت في الجانب الآخر، أيقنت أننا هلكى لا محالة، مسكت عمار بكلتا يدي. إلى متى أهرب من هذا الظل الذي يدعى الموت؟ في تلك اللحظة خشيت على ابني، أن مت غريقة أود له أن يبقى حياً فوق جثتي الطافية.

بين الصراخ والبكاء انقلب المركب، فلت عمار من يدي ففقدته، غاص جسدي ثم خرجت اتخبّط محركةً يديّ للأعلى كي أُبقي رأسي فوق سطح الماء. عجزت عن إيجاد ابني، دخل الماء عينيّ وحجب عني الرؤية، استنشقته وتجرعته. كنت عاجزة ويائسة، لم أخش الموت بقدر خشيتي فقدان ابني، وكيف لي أن أنقذه وأنا بحاجة لأحد أنا ينقذني، فقدته، ضاع بين الهاربين من الموت، يصرخون، يناجون، يتخبّطون اختلطت رائحة الموت باليأس. 

توقفت عن الحراك، أطلقت حشرجة أخيرة، أغمضت عينيّ فغصت، رافقني الموت إلى القاع. تبدد النور ثم عمّ الظلام.

شنقاً على حبل العاطفة

كنت في ما مضى طفلٌ يحبو فوق أديم الحياة لا يعبأ بمآتي الأيام، فغدا الطفل صبيٌ يمشي عاري القدمين على مروج الغد. ثم نحت الإله شمع صبابتي وصقلها بأزاميل الفتوّة وفي صبابتي كانت نهاية الحياة. كل ذلك حدث في ما مضى، والماضي رحل ولن يعود.

كنت في ما مضى أسمع بأمر الحب وأرَ وقائعه ولم أكن أعبأ بمن يسير خلف ظلال العشق ولا بمن يتكئ بسنديانة المحبة، وكنت أرَ كل متيّمٍ تائه، وكنت أقول ويح كلّ من هوى لقد هوى، وكنت عندما أسمع بأمر الهائمين أتبسّم بأشداق السخرية وأقول مساكين لقد جنّ جنونهم. كنت أرَ كل ذلك وأسمع وكل شعورٌ في قلبي قد تجلّد وقسى.

في صبابتي اتقدت شعلة إلهية في صدري، حارقه بلذّتها، ترتعش أوصالي بسعيرها. فألفيت قلبي ماثلاً أمام عرش الحب، جاثياً يضحك ببكائه وسيل دموع المحبين تطهره. وجدته منتصبا يتبسّم متأوهاً أمام وجه الشمس وظلال العاشقين تكنفه. وقد وجدته ظامئاً ترويه عيون المتيّمين التائهة. وكنت أسمع صوتاً عذباً آسراً يعلو من الهوى، فهويت كما هوُّ، فصيَرني الحب هائمٌ لا يعبأ بمن هم دون ذلك. حدث كل ذلك باسم الحب، وباسم المحبة أضحت مشاعري ينابيع لا تنّضب. هو عشقٌ طاهر شربت كأس حلاوته مرارةً، هي النارٌ المقدّسة التي أُضرمتها المحبة للعاشقين فكانت لهم برداً وسلاما.

وها أنا اليوم أقف شاخصاً على عتبة الماضي مستذكراً تلك الأيام نظير كهلٍ يندب شبيبته الذابلة، بيد أنني أرَ ذاكرتي تنتحب وسط أثير الماضي محدقةً نحوي بعينان ملؤهما الحسرة والحنو.

أيتها الذاكرة المتّشحة بأزهار الربيع، ألم تحفل بكِ العاطفة على مر السنين لتجعلكِ أينع من الربيع ذاته؟ حدثيهم عن تلك الأيام بملء رحيقها فإني أراكِ اليوم ههنا ذابلة. هيا حدثيهم عن تلك الأيام فلعلّ المشاعر المقدسة تجيء وتلقي بظلالها السماوية على أطرافكِ الشاحبة فتينع، لأنني تسمّرت أمام شمس المحبة وتلك المشاعر كانت ظلالي، فالمشاعر المكتنفة بوشاح المحبة لا تضمحل ولا تنفى. حدثيهم عن تلك الصبية التي أيقظت مضجع روحي لتصيّرها ملاكاً ينشد الأيام حباً، عن التي أختارها الله مشيئةً لتجعل من قلبي أعزوفةً غنّت على إثرها الليالي أخبريهم. قولي لهم عمن رأيت ببصيرتها الحياة فرأيت ما لم يُرى، وأصغيت بمسامعها الخلود فسمعت همس الغابرين، ولامست السكينة بأطراف بنانها فاضطجع الصمت في صدري مغتبطاً.

إنها غادة أيها الناس، الصبية التي أودعها الله في فؤادي محبةً فصيّرت قفر أيامي ربيعاّ ضاحكاً، وأهرقتُ لأجلها عواطفي فسالت تمحق جمود نفسي وتصّلبها.  

كنت في غيبوبة الحياة حتى قبضت غادة بأناملها الطاهرة قلبي فاستيقظت، وأزاحت الغشاء عن بصيرتي فتبصّرت. ومن منّا لم توقظه أكفّ المحبة من سبات الحياة المتّشح بالكوابيس ثم ما يلبث أن يرى اليقظة بأعين قلبه فيراها مسرةً ونعيماً؟ من منّا لم يكن نواةً تحت غشاء الأرض حتى سقته المحبة من عذب ماءها فنبتت عواطفه وأزهرت؟

أجل، بالحب قد نمت عواطفي وأزهرت وبه ارتويت، وفي الدياجي المكفهرّة قد وجدت ذاتي التائهة إذ كان الحب سراجي. فلا ظمأ يؤرقكم بعد اليوم أيها السائرون إلى ذواتكم، فمن ارتشف الحبُ صدقاً فيقيناً سيصل إلى طهارة ذاته، أمّا الذين يصطنعون المحبة من أدران غرائزهم فعبثاً يحاولون، إنما يزرعونها على أرضٍ مقفرة وعلقماً سيحصدون. أن الروح التي تسبح في ملكوت الإنسان ما إن تُشعلها شرارة المحبة تغدو حدساً. فسكبت غادة محبتها في كياني فأضحت روحي حدساً، فشددت رحالي إلى أرض الله التي يدعونها حباً، ولم يكن في جبّتي من زاد سوى قلبي. فالمرء ومهما كافح من أجل بلوغ تلك الأرض الطاهرةُ فلن يستطيع إلا بحدسٍ إلهي عظيم. إن العاشقون وحدهم من يستطيع، أولئك الذين عصِبت أعينهم فساروا حفاةً في دياجي الأيام وحرورها كي يدركوا ما يتلوه عليهم حدسهم.

يا عُزلتي ووحدتي

في ظلماء ذات ليلٍ ساكن نادتني العُزلة وقالت: أنك في صدري أخفّ إليّ من الغمام في صدر السماء. أنت الذي أودع فيك الأزلي مشيئته لتحنّ إليّ نظير الوليد لصدر أمّه، ويأتي بك المساء نحوي كما بمقدور الزهرة أن تغري الدبيب برحيقها. فمالي أراك عابساً مكفهرّاً نظير مرجٍ جدب بعد اخضراره؟ أقبِل يا قرة عيني، هلمّ إليّ كي أُصيّر القحط الذي دبّ في قلبك ربيعاً باسماً، تعال وعانق روحي فإنها لضجيج صمتك قد تاقت، هلمّ بين ذراعيّ أيها العزيز لأُظلَّك بالسكينة التي عاهدتها.

فقلت بصوتٍ ملؤه الحنوّ: آهٍ يا مثواي الوحيد. من ذا الذي يزيح الكربة عن صدري إذ لاحت؟ ومن ذا الذي يبدّد الغُربة عن سماي إذ تلبّدت؟ وأنا بين الجميع إذ اغتربت لم يبقى سواكِ لي موطن. أيا أيتها العزيزة، أفقهيني في أمري، أآثمٌ أنا في حُبكِ؟

صمتت لبرهة، وبعد هنيهة والدمع يتلألأ في وجنتيها كما لو أن قطرات من الندى في خد التوليب قد تلألأت، قالت: وهل عزلة الآدمي خطيئة؟ لا عليك يا حبيبي، هاك روحي المبجلة وأذبها في أنين قلبك، فعسى أن تُبقي الأرواح الآثمة بعيداً عنك، فمهما ألقى الرُماة فيك من الآثام، ومهما غارت في صدرك السهام، ستلبث روحك نزيهة عما يأفكون.
فقلت: ومن ينكر مشيئة الإله فيك؟ فهو الذي أوحى لقلبكِ لأن يغدو حراءً لمحمد، إذ صلى في جوفك آمناً، واستلقى في مهدكِ مطمئناً، وحماه الله فيكِ من بطش قومه. وتولستوي الذي رأى في ثرائه فقراً، وموتاً، فهجر أترابه وأحبابه لاجئاً إليكِ ليقتات من يديكِ فتات الحريةِ والحياة. وعندما رأى الأبدية تحوم فوق رأسه كما تحوم النسور فوق الجيفة النتنة، اكتنف بصدركِ وكان يعلم بأنه سيحول ضريحه الأخير، فطفقت روحه تطفو بابتسامة باكية نحو السماوات.

وقلبي أيتها العزيزة, أن قلبي لأواهٌ ضعيف يرتعش في وجه الليالي الداجية، ليالٍ لا تبعث في نفسي إلا الوجل. وكصوتٍ ضارع الهمس ناديت ولم يكن في هذا العراء إلاكِ. وحين ربّتت في فؤادي أناملكِ فرّت أشباح التيه فزعه، ثم عانقتكِ عناق الأرواح للأبدية.

سمعت بعدئذ صوت خفقان أجنحة يقترب نحوي، فما هي إلا لحظات حتى رأيت الوحدة تحط أمامي وبين عينيها نور الطمأنينة يأتلق. فقلت لها والمسرّة تجتاح جسدي: يا أميرة الواهين إذ استوحشوا ها أنتَ ذا. أسمعتي لنداء روحي؟

فقالت: أوليس أنينك الذي قد أحال الأثير إلى أعزوفةٌ مقطوعةُ الأوتار؟ يا صغيري التائه, لقد أصغيت لموسيقى روحك وما لبثت حتى قادتني مسامعي إليك. قل لي يا حبيبي ما في سرك لأُسمِعه للشجر والحجر، قُل لي.

فقلت: أن فضلكِ عليّ فسيحٌ كمرأى آفاق البحار من شطآنها. أنكِ مهد السكينة، ومن أضطجع في السكينة يوماً ستلبث روحه طاهرة فوق أدران الحياة. لقد كانوا دائبين في القول “مالنا نراك يتيماً بوحدتك ونحن نطوف من حولك كما يطوف الحجيج حول الكعبة؟ إنّا لنراك موجوعاً إثر أمرٍ ما، فدع لنا قلبك يفغر فاه وليلقي بآلامه فوق افئدتنا، فإننا أولى من أن تتكئ بوحشتك منعزلاً كالموبوء”.

ألا ليتهم يعلمون أيتها العزيزة أن بكِ قد رأيت الحياة طفلٌ ينشد السرمدية تارةً، وطوراً يعزفها بناي الصبابة، وبين السرمدية والصبابة نهر عشقٍ جارف. وبهم قد رأيت الحياة كهلاً يولول باسم الفناء تارةً، وطوراً يرثي دُنياه متململاً، وبين الفناء والدنيا رقص الموت بأصابعه.

وأنتِ بين الطفولة والكهولة رأيتكِ وبيدكِ الحرية صولجاناً، وفوق هامتكِ وُضعت الأبدية موضع التاج في الرأس.​

صمتنا وضجيجكم

لجأنا منذ الأزل إلى صومعة الصمت، ذاك المنفى البعيد الذي ننّصت فيه بغبطة عازِف لتأوهات وتنهّدات أعماقنا. لقد صُمنا عن الكلام طويلاً لأن ثمار الحياة التي لا تمضغها أفواهُكم نقطفها بأنامل الصمت.

أنتم لا تنصتون إلينا لأن صدى ثرثرتكم احال الأثير إلى ضباب وأعماكم، ولكنّنا نسمعكم ونراكم.

نحن نكتنف السكون لأن افئدتنا لا تحنو إلا لأنامل السكينة الناعمة، وأنتم تفرون من السكينة لأنكم تخالون الصمت منفىً لا تلجأ إليه سوى الأشباح وأخيلة الزمان الغابرة.

نحن نمضي ولا تسمع الحياة وقع أقدامنا لأن من يمشي على الرمال لا يعبأ لزوال آثاره أمام وجه العاصفة، وأنتم تسيرون في قُطعان لأن العنزة التائهة لا تؤب إلا على جلبة القطيع.

نحن نضطجع في مهد الحياة مطمئنين والطمأنينة أمٌ عاقر أبناؤها نحن، وأنتم تستلقون حيث الضجيج والضجّة نهدُ شيطان تتجرّع أفواهكم للذّته، وبين الطمأنينة والضجّة هوّة عميقة يعلو منها نحيب وتأوّه الغابرين.

أنتم تكثرون من الكلام وأعماقكم خاوية مقفرة ونحن نصغي لأناشيد الخلو مغتبطين.

إنّنا نسمعكم ونراكم وأنتم تخالوننا مخلوقات سديمية ضعيفة تعاقر عزلتها لأن العزلة خانقة لا آذان لها كي تصغي لثرثرة العابرين فوق أديمها. ونحن نرى العزلة مأوى عائم فوق أفواهكم.

أيْ، إننا نصمت كسبات ليلٍ حالك، وإذ تحدثنا أنصتت إلينا الرياح، ومالت نحونا الزنابق، لأن الأزهار اليانعة تهوى عناق نسيمٌ دافئ من أن تطوقها عاصفة هوجاء تُحيلها إلى هشيمٍ بالٍ.

لقد انحنى صمتنا أمام الكلام لأن الغاية التي لا تدركها الألسُن تجثو باكية منتحبة فوق صدورنا.

سأُبحر

إلى أين سأُبحر؟
وكل بحر بين جفنيكِ ينهمرُ
وبما أجدّف؟
وهمسكِ التيارُ والريحُ
يا مرفأ على ضفاف أحلامي، ويقظتي
كل ضِفافي
أيا جزيرةٌ وسط آمالي، والبحر كل خيباتي
إلى أين سأبحر؟
وأنتِ، مد روحي وجزرها
غدوتِ مرساةً لكل أمنيةٍ
وليست أمانيّ سوى قرابينٌ
لجوع أعماقكِ وظماه
وغدوتِ أُعزوفةٍ وعاصفةٍ
وبين كِلاهما غنّت الشياطين ورقصت
حنانيكِ وأمواج البُعد عاتيةٌ
سأُبحر ورياح الشرق موحشةٌ
إليكِ وإن غدا الموت شراعي

ميلادي الجديد (شِعر)

في ميلادي الجديد
قذفتني الحياة من رحم بؤسها
وزمجرت
أن في فجر الشتات 
شمس تائهٍ قد بزغت، وانبثقت
من دجى لياليه الهادئة التي غدت
محض رقصةٍ تنثر هشيم قلب بالٍ
كان يحتضر
فولدتُ أنا من مخاض صرخة، تائهاً
أكسو عريّ بعري الأرض، وأرتعش
أمام وجه الشمس. أنا
وأناي شيطانٌ جثى على صدري منشداً:
” كيف للضياء أن يغدو نجماً لولا الدجى؟ وما لأعماقك نجماً سواي”
قبلتني الشمس بنورها،
فتلاشى وجه شيطاني، وبقيت
دون أناي أصرخ
أتاؤه، في جوف السموات
من أكون؟
لامستني أنامل الحياة الناعمة، وقالت
“إنك مولودي الجديد”

بين ماضٍ ومستقبل

في إحدى الليالي رأيت على قارعة الطريق رجلان واهنان غريبا الأطوار كانا يتشاجرا فيما بينهما، فسرت نحوهما إذ ذاك لأرى على ما هم فيه يختلفان. فكان أحدهما ذو عينان جاحظتان وشعر أشعث، وكان رداؤه ممزقاً. بينما الآخر كانت ذو ملامح غامضة لم يكن بمقدوري التكهُّن على شخصيته.

فبادرت سائلاً: هل لي أن أساعدكما فيما تختلفان فيه؟ 
فقال الأشعث المغبرّ : إن هذا المستقبل لا يكف عن مشاجرتي بحجة أنني من أجعل المرء يقع في هوّة ذاكرته المريرة زاعماً بأن أشباحاً تخرج من أروقة ظلمات روحي تبثُّ الوساوِس في قلب المرء المطمئن. لقد نعتني بالشيطان الأسود. قُل يا هذا أولست أنا من سطّرني الأنسان بحبر نواياه لأكون كتاب أفعاله المطمور تحت غُبار كئآبته الموجعة؟ أخبرني كيف يجئ هذا الذي أمامك وينعتني بالشرّ الأسود وأنا الذي وُلدت من رحم ذكرى بائسة؟ 

لم أتفوّه بكلمة، وترددت أصداءٌ من أعماقي قائلةً: يالماضينا المسكين، لقد أسقيناهُ من رحيلنا علقماً فغدا يلوك المرارة منفردا. فإنه لحقٌ علينا أن نقف هنيهة في هضبة حاضِرنا نتصفّح فيه صفحات ماضينا المهترئة، لعلّ أشباح وحدتهِ تنفر بصحبتنا جواره.

ثم قلت للآخر: هوّن عليك يا هذا. من تكون لتُلبس هذا المسكين رداء الشر؟
فأجابني قائلاً: إن الماضي يا هذا قد أثار حفيظتي إزاء الذين يحدقون نحو عُري الأُفق منتظرين مصائرهم المجهولة، وإنني أعمى عن تلك الأقدار المحدقة بهم. فلِما يتهمني بالتواطؤ مع بصيرة المرء المواربة لما وراء الأفق وأنا لا أفقه كيف تُحيك يد الله أقدار بنو الأنسان؟ أولستُ أنا ذاك الكائن الضبابي المجهول الذي ابتدعه الأنسان من تحت أنقاض بؤس ماضيه وحاضره المُهدّمين؟

ثم تعالت تلك الأصداء من أعماقي مجدداً قائلةً: أواه لمصير جياع جامحه رغباتهم المتوارية خلف قضبان الغد، فمن سيخمد غليلهم إِلاه؟ 
فحريٌّ بنا أن نتربّصه بمنظار حاضرنا المشوّش، مترقبين بزوغه على آفاق أرواحنا بلهاث ورُعاش أبديين.

وقفت هنيهة إذ ذاك، ثم أكملت مسيري تاركاً ورائي ماضٍ ومستقبل وصدى إنسان هالك ما زالت جُدران كهوفي تردده منذ الأزل. تركتهم على ظلالهم يتخاصمون. فحياتي ليست سوى لحظة لا تلتفت باكية نحو أطلالها، ولا تُغريها مطامع الغد.